فصل: تفسير الآية رقم (149):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (149):

قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين: إيصال النفع إبداء وإخفاء، ودفع الضرر، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحًا بالندب إلى العفو والإحسان، فكان نادبًا إليه مرتين: الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة، حثًا على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم: {إن تبدوا خيرًا} أي من قول أو غيره {أو تخفوه} أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعًا منه هو أفضله فقال: {أو تعفوا عن سوء} أي فعل بكم.
ولما كان التقدير: يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله: {فإن} أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن {الله كان} أي دائمًا أزلًا وأبدًا {عفوًا} ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفوًا إلا إذا كان من قادر وكان الكف- عند القدرة عن الانتقام، ممن أثر في القلوب الآثار العظام- بعيدًا، شاقًا على النفس شديدًا؛ قال تعالى مذكرًا للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم: {قديرًا} أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعًا في عفو القادر عنه وخوفًا من انتقامه منه وتخلقًا بخلقه العظيم والاقتداء بسنته. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} وفيه وجوه: الأول: أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن.
الثاني: أن الله كان عفوًا لمن عفا، قديرًا على إيصال الثواب إليه.
الثالث: قال الكلبي: إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك. اهـ.

.قال الماوردي:

ثم قال بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلومًا: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ} يعني خيرًا بدلًا من السوء، أو تخفوا السوء، وإن لم تبدوا خيرًا اعفوا عن السوء، كان أولى وأزكى، وإن كان غير العفو مباحًا. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {إن تبدوا خيرًا} قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة والضيافة والصلة.
وقيل معناه إن تبدوا خيرًا بدلًا من السوء {أو تخفوه} يعني تخفوا الخير فلم تظهروه وقيل معناه إن تبدوا حسنة فتعملوا بها تكتب لكم عشرًا وإن هم بها ولم يعملها كتبت له واحدة وقيل إن جميع مقاصد الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين: أحدهما صدق النية مع الحق.
والثاني التخلق مع الخلق فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضًا وهما إيصال نفع إليهم في السر والعلانية وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه} أو رفع ضر عنهم وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أو تعفوا عن سوء} فيدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضر، وقيل المراد بالخير المال والمعنى إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهرًا أو تخفوها فتعطوها سرًا أو تعفوا عن مظلمة {فإن الله كان عفوًا قديرًا} يعني لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام فاعفوا أنتم عمن ظلمكم واقتدوا بسنّة الله عز وجل يعف عنكم يوم القيامة لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم وقيل معناه إن الله كان عفوًا لمن عفا قديرًا على إيصال الثواب إليه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًا قديرًا} الظاهر أنّ الهاء في تخفوه تعود على الخير.
قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة.
وقال بعضهم: في تخفوه عائد على السوء، والمعنى: أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلومًا قال له ولجنسه: إن تبدو خيرًا، بدل من السوء، أو تخفوا السوء، أو تعفوا عن سوء.
فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحًا انتهى.
وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسببًا لذلك العفو، ثم عطفه عليهما تنبيهًا على منزلته واعتدادًا به، وإن كان مندرجًا في إبداء الخير وإخفائه، فجعله قسمًا بالعطف لا قسيمًا اعتناء به.
ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى.
والمعنى: أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيهًا على أنّ العبد ينبغي أن يكثر منه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام.
وفي الحديث الصحيح: «من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا».
وقال تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} وقال الحسن: المعنى أنه تعالى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو.
وقال الكلبي: معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على عفوك عن صاحبك.
وقيل: عفوًا لمن عفى قديرًا على إيصال الثواب إليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِن تُبْدُواْ} أي تظهروا {خَيْرًا} أي خير كان من الأقوال والأفعال، وقيل: المراد إن تبدوا جميلًا حسنًا من القول فيمن أحسن إليكم شكرًا له على إنعامه عليكم، وقيل: المراد بالخير المال والمعنى: إن تظهروا التصدق أوْ تُخْفُوهُ أي تفعلوه سرًا، وقيل: تعزموا على فعله.
{أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها، والتنصيص على هذا مع اندراجه في إبداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدًا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضًا مقصودًا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوًّا قديرًا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة، وقال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقال الكلبي: هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم، وقيل: عفوًا عمن عفا {قَدِيرًا} على إيصال الثواب إليه، نقله النيسابوري وغيره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وبعد أن نَهى ورَخّص، ندب المرخَّصَ لهم إلى العفو وقوللِ الخير، فقال: {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفواعن سوء فإن الله كان عفوًا قديرًا}، فإبداء الخير إظهاره.
وعُطف عليه {أو تخفوه} لزيادة الترغيب أنْ لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة، كقوله: {إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271].
والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة، فهو أمر عدميّ.
وجملة {فإنّ الله كان عفوّا قديرا} دليل جواب الشرط، وهو علّة له، وتقدير الجواب: يَعفُ عَنكم عند القدرة عليكم، كما أنّكم فعلتم الخير جهرًا وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم، لأنّ المأذون فيه شرعًا يعتبر مقدورًا للمأذون، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنبًا؛ فذكر {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه} تكملة لما اقتضاه قوله: {لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول} استكمالًا لموجبات العفو عن السيّئات، كما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وأتْبِع السيّئة الحسنةَ تَمْحُها».
هذا ما أراه في معنى الجواب.
وقال المفسّرون: جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أنّ فيه تخلّفًا بالكمال، لأنّ صفات الله غاية الكمالات.
والتقدير: إن تبدو خيرًا إلخ تكونوا متخلّقين بصفات الله، فإنّ الله كان عفوًّا قديرًا، وهذا التقدير لا يناسب إلاّ قوله: {أو نعفوا عن سوء} ولا يناسب قوله: {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه} إلاّ إذا خصّص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم، وإخفائه عمّن ظلمهم.
وفي الحديث: «أن تَعْفُو عمّن ظلمك وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وتَصِلَ من قطعك». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إن تبدوا خيرا أو تخفوه تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا} وفى سورة الأحزاب: {إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما}
للسائل أن يسأل هنا في ثلاثة مواضع: أحدها قوله: {إن تبدوا خيرا} وفى الأحزاب {شيئا} فيسأل عن وجه الفرق؟ والثانى: ما الموجب لخلاف جواب الشرط في الآيتين؟ ففى الأولى {فإن الله كان عفوا قديرا} وفى الثانية {فإن الله كان بكل شيء عليما} والثالث: زيادة قوله في الأولى {أم تعفوا عن سوء}.
والجواب عن الأول: إن قوله تعالى: {إن تبدوا خيرا أو تخفوه} مقصود به خصوص طرف الخير وعمل البر جريا على ما دارت عليه سورة النساء وتردد فيها من إصلاح ذات البين والندب إلى العفو والتجاوز عن السيئات ألا ترى قوله تعالى لمقتسمى الميراث فيمن حضره من ذوى القربى وذوى الحاجات: {فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} وقوله في الآيتين: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} وقوله في النساء {وعاشروهن بالمعروف} وقوله: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} وقوله: {فأعرض عنهم وعظهم} وقوله: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} إلى أمثال هذه الآى مما يطول ذكره ولا يكثر في غير هذه السورة ككثرته فيها ومن هنا لم يتعرض فيها لأحكام الطلاق وان كانت السورة مبنية على أحكام النساء لكن خص من ذلك ما فيه التآلف والإصلاح وما يرجع إلى ذلك ولم يرد فيها من أحكام الطلاق الا ما أشار إليه قوله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} فذكر هذا القدر عند استدعاء معنى الكلام وتمام المقصود به إليه بأوجز لفظ وبما يؤنس الفريقين ولم يذكر فيها اللعان ولا الظهار ولا الخلع ولا طلاق الثلاث بل ذكر فيها استحاب العشرة إلى التوارث فلما كان مبنى السورة على هذا ناسب لك طرف الخير غير مشار إلى ضده الا بالعفو عما وقع بالمكلف فيه فقال تعالى: {إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء} فنوسب بهذا الخصوص خصوص ما تكرر في السورة بما ذكر من العفو وما يحرزه وفى سورة البقرة: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} وذلك في مثل ما تقدم هنا من أحكام النساء.